محاولة لفهم ظاهرة الهدر المدرسي |
عبد الحكيم الرزيكي |
يعتبر الهدر المدرسي ظاهرة وبائية تنخر المدرسة العمومية، حيث تأخذ مكانة
فضيعة في نظامنا التعليمي وخصوصا مع سياسة التعميم التي انتهجتها الدولة، و تزداد
خطورتها مع غياب مؤشرات إحصائية حقيقة تبين فداحة حجمها، مما يطرح مدى نجاعة
المدرسة العمومية في الإحتفاظ بالمتعلمين إلى حدود السن الإجباري للتمدرس على
المحك، ويكشف عن مدى مسايرة المدرسة للشعارات المرفوعة و قدرتها على لعب أدوارها التاريخية
في بناء أي مشروع مجتمعي مستقبلي منشود.
إن
مغادرة الأطفال للمدرسة في سن مبكرة يعود بهم إلى دوامة الأمية لا محالة، مما قد يعصف
بكل الخطط الوطنية التي ترمي إلى تعميم تعليم جيد و الحكم عليها بالفشل النسبي،
وبالتالي إهدار فرص حقيقية متاحة آنيا لتنمية الرأسمال البشري القادر على الإنخراط
في التحديات المستقبلية.
إن هذه الظاهرة ليست قدرا مسلطا على نظامنا
التعليمي لا فكاك منه، بل هي نتيجة لتظافر مجموعة عوامل اقتصادية وسياسية و
اجتماعية و تربوية و تدبيرية يمكن التحكم فيها نسبيا و التقليل من تأثيراتها السلبية،
إذا توفرت الإرادة الحقيقة لدى القائمين على الشأن التعليمي وطنيا و جهويا و
إقليميا عبر حكامة جيدة و شراكة فعالة منتجة.
وباعتبار المدرسة غير معزولة عن محيطها
المجتمعي، فإن الهدر المدرسي جزء من الهدر
العام الذي تعرفه كل القطاعات بمؤسسات الدولة بأحجام مختلفة، لكن في ميدان التعليم
يختلف الوقع إذ يصبح كارثيا يصعب معالجته في تأثيراته المستقبلية لإتصاله بأهم
عنصر في ثروتنا الوطنية، الا هو الإنسان المغربي الناشئ و خصوصا في ظل التحولات
التي يعرفها العالم اليوم والتي لا مكان فيها للجهل والأمية.
يعتبر الفقر و ضعف مداخيل الأسرة أهم عامل
إقتصادي ـ نسبيا ـ يدفع الأطفال إلى مغادرة المدرسة وإلتحاقهم بسوق الشغل بالرغم
مجموعة من القوانين المانعة لذلك و التي تبقى حبر على ورق، أو إلتحاقهم ببعض
الأعمال الهامشية (مسح الأحذية ،بيع السجائر ، غسل السيارات ) من أجل إعالة أسرهم
خصوصا في حالة غياب الأب.
أما العامل السياسي فيتجلى في السياسات
الاديموقراطية التي كانت متبعة في ما مضى من طرف الدولة و التي كانت تعتبر التعليم
قطاعا غير منتج، هذه السياسات التي همشت مناطق بكاملها نظرا لمواقفها المعارضة أو
لعدم اندراجها ضمن المغرب النافع، كما أن سيطرت بعض النخب الرجعية التي تستمد
أفيون سيطرتها من النزعة القبلية العشائرية على الشأن المحلي ببعض المناطق و التي
لم تدرج الشأن التعليمي في جدول اهتماماتها المحلية إما لخوفها من انتشار الوعي و
التحرر و توسع قاعدة المتعلمين مما قد يعصف بركائز سيطرتها، وإما أنها ترى في
الأمية حضانة للقطيع يغذي جشعها الإنتخابي.
و
يتجلى عامل التدبير في سؤ توزيع للموارد البشرية وطنيا و محليا و يلاحظ ذلك في
تأخر إلتحاق المدرسين بأماكن عملهم نظرا لعمليات الحركة الإنتقالية الجهوية ،
المحلية ، و تأخر التعيينات بالنسبة للمتخرجين الجدد برغم قلتهم، هذا الأمر الذي
يترك مدارس بدون مدرسين إلى وقت متأخر من إنطلاق الموسم الدراسي مما يشكل استياء
واسعا لدى الأباء و التلاميذ على السواء.و يشكل ضعف البنيات الإستقبالية للملتحقين
بالإعدادي وعدم تزامن فتح الداخليات و دور الطالب مع فتح المؤسسات التعليمية عائقا
بينا في تنمية عدم الإلتحاق و الإنقطاع، إضافة إلى تأخر تسليم المؤسسات التي هي
قيد البناء في وقتها المحدد.
وتزداد ظاهرة الهدر استفحالا ببعض المناطق
المهمشة (شيشاوة نموذجا) التي تعتبر مناطق عبور نحو المدن في عدم استقرار الموارد
البشرية هذا الأمر الذي جعل الوزارة تستعين بعدد مهم من حملة الإجازة حيث تم
توظيفهم كمعلمين عرضين، هذا التوظيف الذي لم تواكبه رؤية واضحة تحدد المستقبل
المهني لهذه الفئة مما جعلها تدخل في إضرابات متكررة و أحيانا طويلة دفاعا عن
حقوقها المشروعة في العيش الكريم و الأجر المتساوي للعمل المتساوي، مما انعكس سلبا
على نسب التمدرس في المناطق التي يتواجدون بها ، فكثيرا ما كانت الأسر تحجم عن
إرسال أبنائها الى المدرسة عند عودة المضربين.
أما العامل السوسيوثقافي فنجده في موقف الأسر
من التعليم بشكل عام و موقفها من تمدرس الفتاة بشكل خاص بالعالم القروي، فانتشار
ظاهرة البطالة جعل الأسر تراجع رهاناتها وتحجم عن الإستثمار في تعليم أبنائها
خصوصا مع ارتفاع تكلفة المحفظة المدرسية ،بل هناك من يعتبر التعليم مضيعة للوقت و
الجهد تغذي كل ذلك بعض الأفكار و الأمثال النمطية المثبطة السائدة داخل المجتمع والتي
تمتع مشروعيتها من ثقافة التخلف السائدة و ضعف الحملات التوعوية وطبيعة المشروع
المجتمعي المخزني الذي ساد المغرب طيلة عقود من الزمن.
أن
سيادة الفكر البطريركي داخل الأسر يجعل من الطفل ملكا خالصا للأب، هذا الأخير يملك
عليه حق الموت جهلا أو حق الحياة علما، حسب طبيعة الأب و درجة تمثله للدور
المدرسة، و حسب حاجته للطفل الذي يعتبر وسيلة إنتاج في أوساط معينة و يدا عاملة
مجانية قد تساعد في تنمية الثروة الأسرية عبر الإشتغال في الحقل أو رعي
المواشي.هذا الأمر الذي يقتضي إعادة النظر في دور الدولة لتطبيق اتفاقية حقوق
الطفل و حماية حقوقه الأساسية بشكل سليم باعتباره ثروة وطنية قمين بحمايته ولو ضد
والديه و تصبح الدولة هي ولية أمر جميع الأطفال المسؤولة عن إلتحاقهم بالمدرسة، فما
معنى أن يبقى قانون الإلزامية حبيس الرفوف في غياب مسطرة واضحة للتدخل تحدد المسؤوليات؟.
وما معنى أن ينقطع تلميذ عن الدراسة من الإبتدائي أو حتى الإعدادي ليلتحق برعي
المواشي أو العمل في الضيعات أو العمل في البيوت في سن مبكرة بتبريرات واهية؟ أليس
هذا ضربا من العبث بالثروة الوطنية البشرية و المال العام الذي أنفق في تقريب
المدارس من المواطنين. هل بنيت المدارس لتبقى فارغة ؟ هل وضع القانون لتستر على
المسؤوليات؟
إن للعامل التربوي و النفسي للمتعلم و العلاقات
التواصلية الصفية السائدة داخل المدرسة دور مهم في قابليته لمواصلة تعليمه أو
العكس، وحسب ملاحظتنا الميدانية نجد أن المتعلمين المثعترين، تكون لهم قابلية
الإنقطاع عن الدراسة أكثر من غيرهم، مما يتحتم نهج خطط تربوية تعالج مسببات هذا التعثر، ويبقى هذا من اختصاص هيئة
التدريس و التأطير و الإدارة القادرة على إرساء مشاريع تربوية واقعية قابلة
للتنفيذ على أساس مسؤوليات واضحة بعيدا عن اللف الديماغوجي و المشاريع الصورية
التي تزكم الأوراق.فكم من مشروع بدأ طموحا لكنه بعد أيام من ولادته أصبح في عداد
الموتى داخل رفوف الإدارات و السبب هو الحماس الزائد في تنفيذ المذكرات بدون أية
رؤية ملزمة شمولية واضحة و بدون أي تتبع واقعي مشجع.( الدعم المؤسسي ـ مراكز
الإستماع ـ خلية اليقظة).
إن الحد من المغادرة اللاطوعية للمدرسة.تقتضي
من الإدارة الخروج من دائرتها الضيقة الضبطية، لتنفتح على محيطها عبر إرساء علاقات
تواصلية أفقيا ( أسرةـ جمعية الأباءـ منتخبين ـ سلطة محلية ـ جمعيات مجتمع مدنية ـ
نقابات) و عموديا (علاقات بينية داخلية ـ
هيئة التدريس ـ هيئة التأطير والإدارة التربوية) مبنية على الشفافية و إنتاج
الحلول الواقعية و عبر نسج شراكات فعلية
ملتزمة. هذا الأمر الذي يقتضي إعادة النظر في طريقة إسناد الإدارة التربوية بجعل هيئة
الإدارة ضمن النظام الأساسي الخاص بموظفي وزارة التربية الوطنية لها تكوينها الخاص
و مزودة بكل إمكانيات الفعالية لتكون حاضرة دائما لمعالجة كل الإختلالات التربوية بالسرعة
و النجاعة اللازمة. كما أن إرساء برامج لتكوين المستمر لفائدة المدرسين على صعيد المؤسسات و النيابات كفيل بتسليط الضوء
على مجموعة من السلبيات التي قد تشوب الممارسة التربوية اليومية عبر تبادل الخبرات
و الحلول.
إن الحديث عن أي خطة وطنية أو جهوية أو محلية لمقاربة ظاهرة الهدر المدرسي لا بد أن
يستحضر كل هذه العوامل المذكورة أعلاه، من أجل تشخيص علمي دقيق يبين نسبة مساهمة
كل عامل في هذه الظاهرة الشاذة و المعرقلة لتطور التعليم الجيد في المغرب، و في
بعض الأقاليم المهمشة و أخص بالذكر إقليم شيشاوة، كما أن نهج سياسة تشاركية مبينة
على تحديد الإختصاصات و المسؤوليات مع مختلف المهتمين بالشأن التعليمي كفيل
بالسيطرة على كل المسببات التي قد تدفع الى الهدر المدرسي حتى لا نصل الى تسو نامي
الإنسان المهدور.
|